مجلة آفاق الأدبية _______ الأميرة و الدب _______ ترجمة حسام أبو سعدة

الأميرة و الدب.
من أساطير الهنود الحمر.
الحيوانات ترتبط مع بعضها البعض بعلاقات عائلية  حيث يلعب كل منهم دوره المحدد. بعض الأساطير تفسر لنا هذه العلاقات بالعودة إلى أصل كل حيوان. يعتقدون أنه فى البداية كان العالم غارقًا فى غياهب الظلام  لأن الغراب الكبير يحتفظ بالشمس داخل علبة و عندما أخرجها الغراب الابن من العلبة عم الخوف فى كل البشر. البعض جرى إلى البحر و البعض جرى إلى الغابات. كان الناس يرتدون جلود و فراء الحيوانات. فى هذا الوقت تحول كل إنسان إلى صورة الحيوان الذى يرتدى جلده أو فرائه. أما الذين لم يتمكنوا من الهرب أصبحوا  وسطًا بين الحيوان و الإنسان. يطلقون على هذا الكائن الخرافى اسم "تاتوم".
كل قبيلة ترتبط بأحد هذه الكائنات الخرافية "تاتوم" بصلة قرابة. كل قبيلة تشكل أقنعتها فى المهرجانات و تزين ديارها على شكل التاتوم الذى تنتمى إليه.
قبائل "كيتاواجا" تزين مدخل قراهم بنصب تذكارى ضخم مصنوع من خشب الأرز  على شكل دبة و أولادها. ذلك لأن الأسطورة تقول أنه منذ زمن بعيد  التقت فتاة صغيرة بالدب فى الغابة  و احتبسها الدب.
حدث هذا فى نهاية الصيف، على سواحل الشاطئ الشمالى الغربى. كانت الفاكهة و الأعناب ناضجة على الأشجار تنتظر من يحصدها. فى الصباح، أخذت الأميرة "بيسونت" – ابنة زعيم البلدة – سلتها و خرجت مع زميلاتها من البلدة.
إنطلق الفتيات إلى الغابة يحصدن الثمار و هن يضحكن. و شيئًا فشيئًا أصبحت الغابة أكثر كثافة و راح بعض الفتيات يرددن الغناء بصوت منخفض حتى لا يلفتن انتباه الحيوانات القريبة منهن. يعلمن جيدًا أن الدب ينزعج من الضجيج  لكن الأميرة "بيسونت"  كانت تسخر من هذه الفكرة  فقالت مازحة:
- أيها الدب، أنت قذر، حقير، أبله  و أنا أسخر منك.
       عندما قالت ذلك شعر الفتيات بالخطر. رحن يتأملن الغابة حولهن  لكن كان كل شىء هادئًا.
مضى اليوم هادئًا و بعد الظهيرة أصبحت السلال ثقيلة على أكتاف الفتيات. قررن العودة  خلال المنحدر الصخرى الهابط من الجبل. تأخرت الأميرة "بيسونت" قليلًا لتحصد بعض الثمار الناضجة  ثم جرت تلحق بزميلاتها. و قبل أن تلحق بهن تمزقت سلتها و سقطت بعض الثمار تجرى على الأرض. جلست فى ضيق تصلح سلتها ثم جمعت الثمار. عادت تجرى خلف زميلاتها، تسمع صدى صوتهن  خلال الأشجار ثم لمحتهن على بعد عدة خطوات منها. تمزقت السلة مرة أخرى  و اندثرت الثمار تجرى فى كل الإتجاهات. بكت "بيسونت" فى حنق. لكن ماذا تستطيع أن تفعل سوى اصلاح سلتها و إعادة جمع الثمار المندثرة.
بدأ الظلام يهبط على الغابة. أنصتت فى انتباه. لم تعد تسمع صوت زميلاتها. رغم سخريتها من الدب فى الصباح إلا أنها بدأت تشعر بالخوف الآن.
فجأة سمعت صوت حركة يأتى من الخلف. التفتت لتجد شابًا صغيرًا يخترق أشجار الغابة، يرتدى معطفًا كثيفًا من فراء الدب. عندما لمحها الشاب ابتسم فى أدب وقال:
- ابنتى المسكينة. يبدو أنك فى مأزق و لا أحد يساعدك . تعالى ، سأحمل لك السلة الثقيلة. تأخر الوقت و لن تستطيعى العودة إلى بلدتك الآن. بلدتى ليست بعيدة، من الممكن قضاء الليل معنا.
وثقت به "بيسونت"، تركته يحمل السلة و اتبعته فى الجبل.
وصلا إلى البلدة التى تقع فى مكان فسيح فى الغابة. قادها الشاب إلى منزل جميل يتوسط المكان  ثم إنحنى أمامها و دعاها للدخول. بعد أن إعتادت عينيها الظلام لاحظت حشدًا كبيرًا يتجمع  حول النيران. الجميع يرتدى معاطف من فراء الدب و يرقبها بحذر شديد. يتوسط الحشد رجل سمين جدًا يتزين بمخالب الدب. قال الرجل السمين للشاب:
- حسنًا يا ابن أخى، هل عثرت على ضالتك؟
أجاب الشاب:
- نعم، ها هى معى.
تأمل الرجل السمين "بيسونت" ثم قال:
- إنها جميلة جدًا. اجلسى يا بنيتى لتناول الطعام  معنا. ابن أخى سيجلس جوارك. إنه الشخص الوحيد الذى يليق للزواج بك.
أطاعت الأوامر فى رعب. إنهمك الجميع فى الطعام دون أن يلتفت إليها أحد. ثم شعرت بشىء ما يجذبها من أسفل ثوبها، رأت سيدة عجوزة جدًا، وجهها كله مجعد،
تقول لها:
- أنا المرأة الفأر و هم شعب  الدبب. ضاقوا من سخريتك بهم هذا الصباح. زعيم الدبب أرسل ابن أخيه للبحث عنك. هل ترى هؤلاء النساء؟ تم إختطافهم مثلك. لكن سلوكهن سئ و لذلك يتعاملون معهن على أنهن جوارى. عليك بطاعة زوجك و خدمته باحترام. و إذا لم تفعلى ذلك ستصبحين جارية. لا تحاولى الهرب. سيبحث عنك الدبب فى كل مكان. أنا الموكلة بتعليمك تعاليم شعوب الدبب.
وهكذا عاشت الأميرة كثيرًا مع الدبب. لاحظت أنهم عندما يخرجون للصيد يتحولون إلى دبب تمامًا و عندما يعودون يتحولون إلى رجال. زوجها يعاملها برفق حتى أحبته  كما أحبت المرأة الفأر.
لكن لا يتركونها أبدًا بمفردها. دائمًا هناك من يرقبها خوفًا من محاولة الهرب. بالرغم من راحتها هنا إلا أنها تشعر بالحنين إلى بنى جنسها و بلدتها ، تبكى و هى تفكر فى والديها و إخوانها و كلبها "ميسك".
كان أهل البلدة فى حالة حزن عميق. أرسلوا كثيرين للبحث عنها فى كل المناطق المحيطة بهم. لم يعثروا على أى أثر سوى آثار خطوات الدب فى المكان الذى اختفت منه. مرت الأسابيع و الشهور، إعتقد معظم أهل البلدة أنها ماتت. لكن إخوانها كانوا على يقين أنها سجينة فى شعب الدبب  و يجب إنقاذها. إنهم من أمهر صيادى الدبب فى البلدة، كلبها "ميسك" من أفضل الكلاب فى مطاردة الدبب. لا بد من الاستمرار فى البحث عنها.
استمر البحث عنها لمدة عام كامل. فى هذا العام إصطادوا كميات كبيرة من الدبب من كل المناطق المحيطة بهم  و لم يعثروا على أى أثر للأميرة. آثار نشاطهم المحموم القلق فى بلدة الدبب. لاحظت "بيسونت" نقصان عددهم عندما يعودون من الصيد. و فى ذات يوم  قال لها زوجها:
- إخوانك و كلبك يبحثون عنك. قتلوا الكثير من الدبب.  إنهم يقتربون من البلدة. سيصلون إلى هنا قريبًا. ستأتى معى إلى مكان بعيد فى الجبال. مكان لا يستطيعون الوصول إليه.
كان الطريق عبر الجبال طويلًا مرهقًا. إنه الشتاء. الجليد الكثيف يغطى الممرات الجبلية فيصعب السير. و أخيرًا وصلا إلى كهف فى مكان مهجور. قضوا فى هذا الكهف فصل الشتاء. و فى هذا الكهف أنجبت دبين صغيرين. طفلان فى غاية الغرابة، نصفهم دب و النصف الآخر على شكل إنسان.
و فى ذات يوم  بينما كان زوجها نائمًا، جلست "بيسونت" فى مدخل الكهف تهدهد طفليها و هى تفكر فى أهلها.  فجأة لمحت بعيدًا، تحت الجبل، رجالًا يجتازون الجليد. تابعتهم باهتمام شديد، لاحظت كلب ضخم يسير أمامهم و هو يتشمم الأرض. إنهم إخوانها و "ميسك". ماذا تفعل لكى تلفت نظرهم؟ تصرخ؟ سيضيع صراخها فى الهواء… وقف   إخوانها و راحوا يرقبون المكان حولهم، يبدو أنهم سيعودون من حيث أتوا. يبدو أن  "ميسك" " إفتقد آثار الدب. بسرعة أمسكت الأميرة بقطعة جليد، كورتها ثم ألقت بها أسفل الجبل. وقفت الكرة الجليدية تحت أقدام أصغر إخوانها. رفع أخوها عينيه فلم يلحظ شيئًا. لكن من حسن الحظ أنه لاحظ آثار أصابع بشرية على الكرة الجليدية  فوضعها أمام الكلب ليتشممها. رفع الكلب أذنيه و راح ينبح بشراسة. أخيرًا نظر الأخوة إلى أعلى الجبل و رأوا أختهم و هى تلوح لهم.
نباح الكلب "ميسك" أيقظ الرجل الدب الذى رمى الأميرة بنظرة حزينة ثم قال:
- سأموت قريبًا، رأيت ذلك فى الحلم. سيعثر على إخوانك و يقتلونى. من أجلك لن أوذى أحدًا منهم  لكن يجب أن تخبريهم أن يتعاملوا معى باحترام. لا تسمحى لهم أن يجروا جسدى على الأرض. وعندما يسلخون جلدى يجب أن يعلقوه على أن تكون الرأس ناحية الشمس. ضعى الريش خلف أذناى و ادهنى ظهرى بالطمى.
قال  ذلك ثم تحول إلى هيئة دب لآخر مرة فى حياته. خرج لمواجهة الصيادين، و لأنه يعلم بحب زوجته لإخوانها تركهم يقتلونه دون أن يدافع عن نفسه.
إحتضنت "بيسونت" طفليها بينما راح "ميسك" يلف و يدور حولهم و ذيله مرفوعًا فى امتنان. إندهش الأخوة عندما لاحظوا أختهم تتحول إلى دب بالتدريج . نمى الشعر الكثيف الداكن على ساقيها، ذراعيها و كتفيها.
عادوا إلى البلدة. أقاموا إحتفالات كبيرة لعودة الأميرة. حصل إخوانها على كل الاحترام و التقدير لنجاحهم. سعدت "بيسونت" كثيرًا لعودتها إلى منزلها فى البلدة، و مع ذلك كانت تفكر من حين لآخر، و هى تداعب طفليها، فى شعب الدبب الذى يعيش فى الجبال.  أصبحت تشعر أنها لا تنتمى لبنى جنسها الآن. لذلك هجرت دار أبيها و أخذت طفليها معها و ذهبت لتعيش فى منزل على أطراف البلدة.
و فى ذات يوم ، أتى إليها أصغر إخوانها حاملًا فراء الدبب لتصنيع ملابس ثقيلة، الشتاء على الأبواب. تلمست "بيسونت" الفراء برفق و هى تفكر فى الدبب، فاضت مشاعرها رغمًا عنها. أحاطت طفليها بالفراء و أحاطت نفسها بأكبر قطعة. هكذا تحول ثلاثتهم إلى دبب للأبد. و خوفًا من أن يقوم أحد فى البلدة باصطيادها فرت هاربة بطفليها إلى الجبل و لم يشاهدها أحد أبدًا بعد ذلك.
القبائل التى تقيم فى هذا المكان لا تنسى أبدًا الأميرة التى تزوجت الدب. لا ينسوا أبدًا الطقوس الخاصة بصيد الدب التى تعلموها من الأميرة "بيسونت". لذلك أصبحوا من أمهر صيادين الدبب.
* من كتاب "أساطير الهنود الحمر" ــ ماريون وود ــ ترجمة: حسام أبو سعدة ــ دار مشارق.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجلة آفاق الأدبية ______ يا سر الهنا ______ بقلم الشاعر نزار سالم

مملكة أقلام و حروف _____ أبكي بلدي _____ الشاعرة صاحبة الظل الطويل

مجلة آفاق الأدبية ________ لون الحزن _____. الشاعر حسين علوان