مجلة آفاق الادب ___ ق.ق الممر ____ أمينة الوزني

قصة قصيرة

(مستوحاة من ذكريات الطفولة)


                     الممر


         وقف الأطفال ينظرون إلى الباب في ذهول ؛ و كأنهم يرونه للمرة الأولى في حياتهم . الباب الضخم الذي كان يحتوي بداخله بابا صغيرا و يعرف عند العامة بباب  (الخوخة) ، استبدل بباب صغير الحجم ، و اختفت من عليه المسامير الضخمة ، و الزخرفة التي كانت تزينه ، و اللون البني الفاتح ؛ أصبح أزرقا سماويا و اليد النحاسية الصفراء الساطعة اللون  المضيئة  التي كانوا يستدلون بها على الباب في ظلمة الصابة الحالكة ، استبدلت بزر كهربائي انتصب في أعلى الجهة اليمنى للباب ، و حل محلها ثقب به عدسة زجاجية ما أكثر ما اقتربوا  منها و تفحصوها مستغربين تواجدها على الباب 

         هنا ..أمام الباب الذي كان حتى الأمس القريب مقوسا ؛و مزينا أعلاه بصفائح القرمود الأخضر ، و في هذه الصابة المظلمة المفعمة بالرطوبة في شدة الحر الذي تعرفه المدينة خلال فصل الصيف ، كان يجتمع أطفال الدرب الجديد ،  و الحومة عموما ، في انتظار رجل قوي البنية ، أسمر البشرة ، على مشارف الشيخوخة ، يرتدي جلبابا أبيض ، و ينتعل بلغة صفراء ، و يضع على رأسه طربوشا أحمر ، يلقب بالسي سالم  ، ليفتح الباب ، و يدخلون الرياض متخفيين بين أشجار البرتقال المورقة على طول السنة ، والسواري الضخمة ، و النافورة المنتصبة وسط فناء الرياض ، فيعبرونه ليخرجوا من الباب الخلفي إلى ساحة العرصة حيث موقف السيارات و المدرسة ، فينقسمون الى فرق في الفضاء الرحب ، بعضهم يلعب الكرة ، و البعض الحبل ،أو الحجلة ، و البعض الآخر يتأرجح على الأشجار...ألخ . و عند العودة يسلكون نفس الطريق منذ أن انفتحوا على عالم غير البيت .

           مرات عدة ضبطوا متلبسين وسط الرياض ، فيغض الطرف عنهم ليمضوا سالمين دون خوف أو فزع ، و مرات عدة دخلوه فوجدوا السي سالم متكئا  فوق زربية صغيرة قرب النافورة ، تحت ظلال أشجار البرتقال ، مستقبلا القبلة ، ماسكا السبحة بيده اليمنى و عينيه شاخصتين الى السماء  الزرقاء ، فيلتفت حوله على اثر وقع الخطى  ؛ فتتلاقى نظرته بنظراتهم البريئة ، فيغمض عيتيه موهما اياهم أنه نائم ، فيتجاوزونه إلى الباب الخلفي بترقب و حذر . و مرات عديدة  وجدوا الباب مغلفا ، فانتظروا طويلا إلى أن ملوا الانتظار ، فطرقوه و هربوا ؛ ليعودوا مرة ثانية و يجدوه مفتوحا و لا أحد به

        هذا الباب ، و هذا الرياض أصبحا جزءا لا يتجزأ من كيانهم ، فهم يشعرون أن الممر ملك لهم ، و لهم حق التصرف فيه ، لذا كلما وجدوه مغلقا طرقوه دون تردد أو خوف . كما أنهم كانوا يكنون لسكان الرياض ، و للسي سالم  خاصة حبا ، و احتراما كبيرا ، و كان هو الآخر يبادلهم نفس الحب ، و يعاملهم و كأنهم أحفاد له .

      لقد كان في كل جمعة يوزع عليهم  التمر ، و الشريحة ، و هو في طريقه الى المسجد لأداء الصلاة ، فيتدافعون نحوه من أجل أخذ حصة كل واحد منهم ، و تقبيل يده الكريمة التي كان يمسح بها على رأس كل واحد منهم بعد اعطائه حصته الموعودة .

      أين أنتم يا سكان الرياض..؟! أين الناس الطيبون..؟! يوم بعد آخر ، و أسبوع بعد آخر ، و الأطفال يقفون في الصابة ؛ و ما فتح الباب ، و ماظهر السي سالم ، و ما يئس الأطفال من الوقةف..!

        *        *        *

          اقترب أحد الأطفال من الباب ، تفحصه جيدا ، تحسس بيده العدسة الزجاجية ، وقف للحظة يفكر ، ثم انحنى تحت الزر الكهربائي ، و نادى أحد أصدقائه ، و أمره بالصعود فوق ظهره ؛ و الضغط على الزر . فعل الصبي ما أمر به ، و فر الاثنان هاربين إلى حيث يقف باقي أصدقائهم ، و شرعوا في مراقبة الباب ، فخرج  رجل قوي اببنية ، أبيض البشرة ، أشقر الشعر ، و جال بنظره في أطراف الصابة ..وقف قليلا ، ثم خاطبهم بلغة لم يفهموها...انتظر جوابا لبرهة ثم دخل و أقفل الباب غاضبا .

     عاودوا الكرة مرة ثانية ...خرج الأشقر...خاطبهم بلغته الغير مفهومة لهم...لم يجيبوه كما في السابق ، و دخل و أقفل الباب غاضبا مرة ثانية .

       عاودوا الكرة مرة ثالثة ، و رابعة ، و خامسة ، لكن الباب لم يفتح ، و الأشقر لم يخرج ، فوقفوا يتحدثون فيما بينهم ، و بعد لحظة  اخترقهم شاب في العقد الثالث من العمر ، أسمر البشرة ، ضغيف البنية،  ، يجر خلفه كلبا أسودا ضخما ، فزعوا لرؤيته ، مضى الشاب الى الباب ..ضغط على الزر الكهربائي ...فتح الأشقر..حدثه ، فلتفت بسرعة الى الخلف محدقا بهم ، ثم اندفع الاثنان الى الداخل و أقغل الباب  .

        اقترب الأطفال من الباب مرة أخرى..ضغطوا على الزر ..انتظروا طويلا ..عاودوا الكرة مرات عديدة ، لكن الباب لم يفتح ، فابتعدوا مهمومين خارج الصابة ، و بعد تفكير عميق قرروا البحث عن ممر آخر .

         ساروا في الدرب ، ودعوا الباب ، ودعوا الصابة ، و اخترقوا الزقاق الضيق الملتوي ، و عبروا طريق الكندافي ، ثم انعطفوا على اليمين حيث المدرسة ، و ساحة العرصة الرحبة ، بعدها تفرقوا كالعادة الى فرق كل انتقى لعبته المفضلة ، و أصدقاءه المفضلين ، و غابوا في متاهة اللهو .

          دب العياء الى أجسادهم ، و بدأوا يتسللون الواحد تلوى الاخر إلى حيث الحائط الفاصل بين مستوصف الحومة و موقف السيارات ، تاركين لذة اللعب و متعته ، لاختلاس هنيهة راحة تعيد الى أجسادهم الحيوية و النشاط من جديد ، و لا حديث لهم إلا عن اللعب  ، أبطاله ، متاهاته ، مناهجه ، الصدق و الغش فيه..و مضى الوقت دون أن يدروا..! تحسس أحدهم أطرافه المرتعشة و قال :

-"لقد احتواني البرد ؛ من منكم يعرني ثوبا ..؟! "

فأجاب أحد الأطفال ضاحكا :

-" ألا ترى أننا كلنا عراة ..!"

و توالت القهقهات .

         تطوا جميعا من فوق السور إلى الأرض ، اعتدلوا في وقفتهم ، تشاوروا فيما بينهم ، و توجهوا نحو الباب الخلفي للرياض .

       طرقوه ، ففتحه الأشقر ثم أغلقه مذعورا ، ثم فتحه الشاب الأسمر مرة ثانية و خرج و الكلب الأسود خلفه ، ابتعدوا  مرعوبين إلى اللوراء ، فالتفت الى الخلف و أوقف الكلب ..ثم اقترب منهم مرة أخرى . حدثهم ...حدثوه .. فرفع يده غاضبا..مشيرا الى الباب و قائلا بأعلى صوته : 

-" انسوا أو لا تنسوا سالمكم ذاك ..لكن انسوا الباب ..و انسوا الرياض ..و إن أردتم المرور ..اسلكوا طريق الكندافي ، وستصلون حتما الى الدرب الجديد ..! "

فانفض الأطفال من حوله غاضبين ، و دخل و أغلق الباب خلفه..! ./.


* الرياض : بيت كبير يحتوي فنائه على أشجار و ورود و أزهار و أحواض مياه

* الصابة : زقاق قد يكون مفتوحا أو محصورا و ميزته أنه له أقواس و سقف يقي الحر و المطر

* الخوخة : باب ضخم مقوس ، مزخرف يضم داخله بابا آخرا صغيرا و يفتح التثنين حسب الطاقة الاستعابية لكل واحد منهما


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مجلة آفاق الأدبية ______ يا سر الهنا ______ بقلم الشاعر نزار سالم

مملكة أقلام و حروف _____ أبكي بلدي _____ الشاعرة صاحبة الظل الطويل

مجلة آفاق الأدبية ________ لون الحزن _____. الشاعر حسين علوان